صعد الإخوان المسلمون إلي صدارة المشهد
السياسي، عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وبلغت ذروة منحني هذا
الصعود عندما آل إليهم حكم البلاد، منتصف عام 2012، في ظرف سياسي بالغ
التعقيد.وبعد عام واحد اقتلعتهم موجة ثورية عاتية في الثلاثين من يونية
2013، وطويت صفحتهم سريعًا، كما صعدوا سريعًا!!
وقد مثّل صعود الإخوان المسلمين إلي سدة الحكم، لحظة كشف تاريخية، وضعت تاريخهم السياسي والدعوي والاجتماعي كله علي محك الاختبار، وألقت بإسلامهم السياسي الحركيّ في أتون الممارسة العملية المحتدمة. فرأيناهم كيف يتعاملون مع الثورات.. وكيف يتكالبون علي السلطة.. وكيف يحرقون المجتمع بنيران إرهابهم إذا ما تصدي لهم، ووقف عائقًا في سبيل الوصول إلي السلطة، أو تصدي لانحرافهم بالسلطة بعد الوصول إليها!!
فأما عن نهج الإخوان المسلمين مع الثورات، فإن سلوكهم إزاءها هو هو لم يتغيّر. فهم لا يؤمنون بثورة، ولايساندونها، ولايتحالفون مع القائمين بها، إلا إذا كانوا ينتوون امتطاءها، وتوجيهها لخدمة مصالحهم ومصالح جماعتهم.. فإذا ما استعصي عليهم ذلك، انقلبوا عليها، وناصبوها العداء، ومزقوها بأسلحة التشهير التي يجيدون استخدامها.
ظهرت بوادر هذا النهج في التعامل مع ثورة 23 يوليو 1952، فقد فرحوا بها في البداية، وتعاونوا معها في سنواتها الأولي من 52 54. وكتب سيد قطب رحمه الله! سلسلة مقالات تولي فيها الدفاع عن الثورة الوليدة بحماس منقطع النظير، وأطلق عليها مجموعة من الصفات التي دلت علي هذا الحماس، مثل: الثورة الشعبية المقدسة ثورة الجيش الحكيمة الحركة القومية الطاهرة النقية الثورة المنظمة المعجزة حركة شعب جرب كل الوسائل التي في يده فلم تؤد إلي نتيجة، فجرب في النهاية أسلحة الجيش'!!' وكان يدعو إلي التعامل الحاسم مع اعدائها والمناوئين لها من الاقطاعيين وكبار الملاك والعمال، فعندما حدثت احتجاجات كفر الدوار الشهيرة عقب إعلان الجيش عن تحديد الملكية، وإعلان الحكومة عن تحديد الدخل، كتب 'سيد قطب' مقالاً في جريدة الأخبار بتاريخ 15 أغسطس 1952 بعنوان 'حركات لا تخيفنا' يدعو فيه إلي مواجهة الخارجين علي الثورة، وختمه بهذه الصورة التي تحمل شيئًا من السادية والدموية:
'كنت أحسب أن طهارة الحركة القومية الجديدة ونقاءها إلي هذا الحدّ النادر في تاريخ البشرية كفيل بأن يجعل المجرمين أنفسهم يتحرجون من الوقوف في طريقها، ولكن كم يخطئ الإنسان في تقدير مدي الدنس الكامن في بعض قلوب الناس!
'إن عهدًا بكامله يلفظ أنفاسه الأخيرة، في قبضة مكينة، فلا بد أن يرفس برجليه، وأن يطوح بذراعيه، ولكنه عهد قد انتهي، عهد قد مات!
'إنما المهم الذي نملكه نحن أن نسرع في الإجهاز عليه، أن تكون المدية حامية، فلا يطول الصراع، ولا تطول السكرات!
'لقد أطلع الشيطان قرنيه، فلنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب' إلي هنا انتهي كلام سيد قطب.
وبعد هذا الحماس الشديد لثورة يوليو. انقلب عليها الإخوان بالحماس نفسه، ووصموها بأنها انقلاب دمويّ، وتآمروا للتخلص من زعيمها عامي 54، 65، لأنهم فشلوا في إملاء إرادتهم علي الرئيس جمال عبد الناصر، وفرض وصايتهم علي الثورة أو توجيهها لصالحهم، وعاشوا نتيجة مواقفهم تلك أكثر الفصول مأساوية في تاريخهم قتلاً: وسجنًا وتشريدًا!!
وأعاد الإخوان المسلمون الكرّة مع ثورة 25 يناير، ونجحوا، هذه المرة، في ركوب موجتها، واستغلالها في تحقيق طموحهم في الوصول إلي السلطة، مستفيدين من أخطاء الثورة، والمجلس العسكريّ الذي تولي حكم البلاد عقبها.
وأما أغرب انقلاب للإخوان المسلمين، فقد كان علي المجتمع، بعد فقدهم للسلطة في 30 يونية 2013، حيث أغرقوا المجتمع في مستنقع.. الترويع والتخريب والتعطيل.. فهل كان كل هذا العنف وليد فتنة فقد السلطة فقط؟ أم كانت هذه اللحظة تعبيرًا طارئًا عن عنف أصيل.. يستدعي محاولة الفهم لسيكولوجية الشخصية الجمعية الإخوانية، والكشف عن أصول جرثومة العنف الخبيثة فيها؟
يبدو أن العنف والعداء للمجتمع كامن في التصورات، ونابع من صميم البنية الفكرية للإخوان المسلمين. فحسن البنا في رسالته 'بين الأمس واليوم'، حين كان يبّصر أتباعه بصعوبات طريق الدعوة، ويحذرهم من العقبات التي ستواجههم، جعل أولي تلك العقبات هي 'جهل' الشعب، فقد قال لهم: 'سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم'.
وتلقف 'سيد قطب' رحمه الله! وهو منظّر جماعة الإخوان المسلمين والمؤسس الثاني لها، تلقف فكرة 'الجهل' وتطرف في فهمها، فتحولت عنده إلي 'الجاهلية' التي عالجها في كتابه 'معالم في الطريق'، الذي يعد دستور جماعة الإخوان المسلمين، ويحفظونه عن ظهر قلب، كما صرح الدكتور محمد مرسي، في لقاء تليفزيوني. فقد رأي 'سيد قطب' أن المجتمع المعاصر يعيش في جاهلية شاملة في: الفكر والاعتقاد ونظم الحكم والتشريع، والفن والفلسفة والأدب.. هكذا يقول:
'نحن اليوم في جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتي الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًا.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية' 'المعالم: ص ص 36 37'.
وقد حاول عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان المسلمين، وزينب الغزالي والدكتور صلاح الخالدي، الذي اعتني بكتاب 'معالم في الطريق ' وأعاد لنشره بعد عقود من الحجب والمصادرة، وكثير من قيادات الإخوان المسلمين، لقد حاول هؤلاء جميعًا نفي فكر تكفير المجتمع التي فهمت من كتاب 'معالم في الطريق'، بل لقد نفاها 'سيد قطب' نفسه، حين أبلغته زينب الغزالي أن الناس يشيعون أنه يكفّر المجتمع 'فغضب سيد وردّ قائلاً: لقد فهموني خطأ.. ولقد وضعت رحلي علي حصان أعرج'!
وما دام الأمر كذلك، فماذا يقصد 'سيد قطب' بعبارة 'جاهلية العقائد' التي وردت في نص كلامه قبل قليل؟! ثم هل يعد من قبيل اللياقة الدعوية أن يجابه الداعية مدعويه بوصفهم بالجاهلية، والثابت أن الأنبياء عليهم السلام كما حكي القرآن عنهم كانوا يخاطبون مجتمعاتهم غير المؤمنة بما يعد آية في التلطف والتواضع ورهافة الحس، فسيدنا شعيب عليه السلام يقول لقومه بعد أن رأي منهم الخيانة في الموازين وبخس الناس أشياءهم، قال لهم: 'إني أراكم بخير' وقال تعالي في سياق دعوي آخر: 'وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين'، ألا يعلم الله وأنبياؤه من الذي هو علي هدي، ومن هو في ضلال؟ ولكنه التلطف في الخطاب، لاستمالة القلوب إلي حظيرة الدعوة، وعدم تنفيرها.. وهل يفترض في مفكر في ذروة نضوجه الفكري مثل سيد قطب، أن يكتب كتابًا لا يفهمه أحد، ويثير كل هذا القدر من الحيرة والبلبلة في أوساط الناس؟
ثم يشن سيد قطب حملة شعواء علي المجتمع بأسره، بأن يدعو إلي التبرؤ من هذا المجتمع، والتخلص منه، والنفور من كل ما يمت إليه بصلة، ويجب ألا ننسي ولو للحظة واحدة أن سيد قطب يتحدث عن مجتمع مسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
يقول 'سيد قطب':
'ثم لابد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي، والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية، والقيادة الجاهلية.. في خاصة نفوسنا.. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي، ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة.. صفة الجاهلية.. غير قابل لأن نصطلح معه' 'المعالم: ص 38'.
ولا يكتفي 'سيد قطب' بهذه الحالة من المخاصمة والمقاطعة النفسية للمجتمع الذي يحيا فيه، بل يدعو إلي الاستعلاء عليه، وكان الأولي به أن يدعوه إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويهديه إلي طريق الله القويم: 'إن أولي الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي علي هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحن من قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريف. كلا!' 'المعالم: ص 39'.
وفي النهاية يدعو سيد قطب إلي اعتزال المجتمع شعوريًا، اقتداءً بالرعيل الأول من صحابة النبي صلي الله عليه وسلم، حيث:
'كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيًا عن بيئته الجاهلية، واتصل نهائيًا ببيئته الإسلامية.. ' 'المعالم: ص ص 35 36'.
فكيف نتوقع السلام والوئام والانسجام بين من يعتقد هذه الأفكار والمجتمع الذي يعيش فيه؟ ما عواقب هذه الأزدواجية في التعامل مع المجتمع مع اعتزاله شعوريًا ومقاطعته والاستعلاء عليه؟ ألا تؤدي مثل تلك الأفكار إلي بذر بذور الشقاق في المجتمع؟
وحكم 'سيد قطب' علي المجتمع بالجاهلية يعود إلي تلك الفكرة الغامضة في ذهن سيد قطب، وهي فكرة 'الحاكمية'، التي استحوذت علي تفكيره، فهو يري أن هذا المجتمع، حكامًا ومحكومين، لا يحكمون بما أنزل الله، ولا يطبقون شريعته، ومن ثم فهم كافرون وظالمون وفاسقون، مع أن المجتمع مسلم بحمد الله، ومعظم قوانينه وتشريعاته مستقاة من الشريعة الإسلامية. ومع ذك فسيد قطب يؤمن بأن الإسلام قد انقطع منذ زوال دولة الخلافة الإسلامية، ولا بد من استعادتها بحيث تعود الجنسية علي أرض هذه الخلافة للعقيدة لا للوطن ولا لأي شيء آخر!!
ولم يقف 'سيد قطب' عند اعتناق هذه الأفكار نظريًا، والاعتقاد في صدقها المطلق، وإنما قفز بها إلي حيز التطبيق العملي. هنا يروي القيادي الإخواني المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين 'علي عشماوي'، وهو آخر قادة التنظيم الخاص، في كتابه: 'التاريخ السرّي للإخوان المسلمين'، يروي علي عشماوي واقعة غريبة جدًا عن 'سيد قطب':
'كان المرحوم سيد قطب لا يصلي الجمعة. وقد علمت ذلك مصادفة حين ذهبت إليه دون موعد، وكانت بيننا مناقشة ومشادة حامية وأردت أن أهدئ الموقف وقلت له هيا إلي صلاة الجمعة، وقد فوجئت حين قال لي: إنه يري فقهيًا أن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة، وأنه لا جمعة إلا بخلافة' 'المعالم: ص 67'.
وهذه الواقعة في حال صحتها جدّ خطيرة.. وتفتح للظنون أبوابًا.. بل تطرح السؤال الأخطر علي الإطلاق وهو: من الذي كفر؟!
وقد مثّل صعود الإخوان المسلمين إلي سدة الحكم، لحظة كشف تاريخية، وضعت تاريخهم السياسي والدعوي والاجتماعي كله علي محك الاختبار، وألقت بإسلامهم السياسي الحركيّ في أتون الممارسة العملية المحتدمة. فرأيناهم كيف يتعاملون مع الثورات.. وكيف يتكالبون علي السلطة.. وكيف يحرقون المجتمع بنيران إرهابهم إذا ما تصدي لهم، ووقف عائقًا في سبيل الوصول إلي السلطة، أو تصدي لانحرافهم بالسلطة بعد الوصول إليها!!
فأما عن نهج الإخوان المسلمين مع الثورات، فإن سلوكهم إزاءها هو هو لم يتغيّر. فهم لا يؤمنون بثورة، ولايساندونها، ولايتحالفون مع القائمين بها، إلا إذا كانوا ينتوون امتطاءها، وتوجيهها لخدمة مصالحهم ومصالح جماعتهم.. فإذا ما استعصي عليهم ذلك، انقلبوا عليها، وناصبوها العداء، ومزقوها بأسلحة التشهير التي يجيدون استخدامها.
ظهرت بوادر هذا النهج في التعامل مع ثورة 23 يوليو 1952، فقد فرحوا بها في البداية، وتعاونوا معها في سنواتها الأولي من 52 54. وكتب سيد قطب رحمه الله! سلسلة مقالات تولي فيها الدفاع عن الثورة الوليدة بحماس منقطع النظير، وأطلق عليها مجموعة من الصفات التي دلت علي هذا الحماس، مثل: الثورة الشعبية المقدسة ثورة الجيش الحكيمة الحركة القومية الطاهرة النقية الثورة المنظمة المعجزة حركة شعب جرب كل الوسائل التي في يده فلم تؤد إلي نتيجة، فجرب في النهاية أسلحة الجيش'!!' وكان يدعو إلي التعامل الحاسم مع اعدائها والمناوئين لها من الاقطاعيين وكبار الملاك والعمال، فعندما حدثت احتجاجات كفر الدوار الشهيرة عقب إعلان الجيش عن تحديد الملكية، وإعلان الحكومة عن تحديد الدخل، كتب 'سيد قطب' مقالاً في جريدة الأخبار بتاريخ 15 أغسطس 1952 بعنوان 'حركات لا تخيفنا' يدعو فيه إلي مواجهة الخارجين علي الثورة، وختمه بهذه الصورة التي تحمل شيئًا من السادية والدموية:
'كنت أحسب أن طهارة الحركة القومية الجديدة ونقاءها إلي هذا الحدّ النادر في تاريخ البشرية كفيل بأن يجعل المجرمين أنفسهم يتحرجون من الوقوف في طريقها، ولكن كم يخطئ الإنسان في تقدير مدي الدنس الكامن في بعض قلوب الناس!
'إن عهدًا بكامله يلفظ أنفاسه الأخيرة، في قبضة مكينة، فلا بد أن يرفس برجليه، وأن يطوح بذراعيه، ولكنه عهد قد انتهي، عهد قد مات!
'إنما المهم الذي نملكه نحن أن نسرع في الإجهاز عليه، أن تكون المدية حامية، فلا يطول الصراع، ولا تطول السكرات!
'لقد أطلع الشيطان قرنيه، فلنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب' إلي هنا انتهي كلام سيد قطب.
وبعد هذا الحماس الشديد لثورة يوليو. انقلب عليها الإخوان بالحماس نفسه، ووصموها بأنها انقلاب دمويّ، وتآمروا للتخلص من زعيمها عامي 54، 65، لأنهم فشلوا في إملاء إرادتهم علي الرئيس جمال عبد الناصر، وفرض وصايتهم علي الثورة أو توجيهها لصالحهم، وعاشوا نتيجة مواقفهم تلك أكثر الفصول مأساوية في تاريخهم قتلاً: وسجنًا وتشريدًا!!
وأعاد الإخوان المسلمون الكرّة مع ثورة 25 يناير، ونجحوا، هذه المرة، في ركوب موجتها، واستغلالها في تحقيق طموحهم في الوصول إلي السلطة، مستفيدين من أخطاء الثورة، والمجلس العسكريّ الذي تولي حكم البلاد عقبها.
وأما أغرب انقلاب للإخوان المسلمين، فقد كان علي المجتمع، بعد فقدهم للسلطة في 30 يونية 2013، حيث أغرقوا المجتمع في مستنقع.. الترويع والتخريب والتعطيل.. فهل كان كل هذا العنف وليد فتنة فقد السلطة فقط؟ أم كانت هذه اللحظة تعبيرًا طارئًا عن عنف أصيل.. يستدعي محاولة الفهم لسيكولوجية الشخصية الجمعية الإخوانية، والكشف عن أصول جرثومة العنف الخبيثة فيها؟
يبدو أن العنف والعداء للمجتمع كامن في التصورات، ونابع من صميم البنية الفكرية للإخوان المسلمين. فحسن البنا في رسالته 'بين الأمس واليوم'، حين كان يبّصر أتباعه بصعوبات طريق الدعوة، ويحذرهم من العقبات التي ستواجههم، جعل أولي تلك العقبات هي 'جهل' الشعب، فقد قال لهم: 'سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم'.
وتلقف 'سيد قطب' رحمه الله! وهو منظّر جماعة الإخوان المسلمين والمؤسس الثاني لها، تلقف فكرة 'الجهل' وتطرف في فهمها، فتحولت عنده إلي 'الجاهلية' التي عالجها في كتابه 'معالم في الطريق'، الذي يعد دستور جماعة الإخوان المسلمين، ويحفظونه عن ظهر قلب، كما صرح الدكتور محمد مرسي، في لقاء تليفزيوني. فقد رأي 'سيد قطب' أن المجتمع المعاصر يعيش في جاهلية شاملة في: الفكر والاعتقاد ونظم الحكم والتشريع، والفن والفلسفة والأدب.. هكذا يقول:
'نحن اليوم في جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتي الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًا.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية' 'المعالم: ص ص 36 37'.
وقد حاول عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان المسلمين، وزينب الغزالي والدكتور صلاح الخالدي، الذي اعتني بكتاب 'معالم في الطريق ' وأعاد لنشره بعد عقود من الحجب والمصادرة، وكثير من قيادات الإخوان المسلمين، لقد حاول هؤلاء جميعًا نفي فكر تكفير المجتمع التي فهمت من كتاب 'معالم في الطريق'، بل لقد نفاها 'سيد قطب' نفسه، حين أبلغته زينب الغزالي أن الناس يشيعون أنه يكفّر المجتمع 'فغضب سيد وردّ قائلاً: لقد فهموني خطأ.. ولقد وضعت رحلي علي حصان أعرج'!
وما دام الأمر كذلك، فماذا يقصد 'سيد قطب' بعبارة 'جاهلية العقائد' التي وردت في نص كلامه قبل قليل؟! ثم هل يعد من قبيل اللياقة الدعوية أن يجابه الداعية مدعويه بوصفهم بالجاهلية، والثابت أن الأنبياء عليهم السلام كما حكي القرآن عنهم كانوا يخاطبون مجتمعاتهم غير المؤمنة بما يعد آية في التلطف والتواضع ورهافة الحس، فسيدنا شعيب عليه السلام يقول لقومه بعد أن رأي منهم الخيانة في الموازين وبخس الناس أشياءهم، قال لهم: 'إني أراكم بخير' وقال تعالي في سياق دعوي آخر: 'وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين'، ألا يعلم الله وأنبياؤه من الذي هو علي هدي، ومن هو في ضلال؟ ولكنه التلطف في الخطاب، لاستمالة القلوب إلي حظيرة الدعوة، وعدم تنفيرها.. وهل يفترض في مفكر في ذروة نضوجه الفكري مثل سيد قطب، أن يكتب كتابًا لا يفهمه أحد، ويثير كل هذا القدر من الحيرة والبلبلة في أوساط الناس؟
ثم يشن سيد قطب حملة شعواء علي المجتمع بأسره، بأن يدعو إلي التبرؤ من هذا المجتمع، والتخلص منه، والنفور من كل ما يمت إليه بصلة، ويجب ألا ننسي ولو للحظة واحدة أن سيد قطب يتحدث عن مجتمع مسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
يقول 'سيد قطب':
'ثم لابد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي، والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية، والقيادة الجاهلية.. في خاصة نفوسنا.. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي، ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة.. صفة الجاهلية.. غير قابل لأن نصطلح معه' 'المعالم: ص 38'.
ولا يكتفي 'سيد قطب' بهذه الحالة من المخاصمة والمقاطعة النفسية للمجتمع الذي يحيا فيه، بل يدعو إلي الاستعلاء عليه، وكان الأولي به أن يدعوه إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويهديه إلي طريق الله القويم: 'إن أولي الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي علي هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحن من قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريف. كلا!' 'المعالم: ص 39'.
وفي النهاية يدعو سيد قطب إلي اعتزال المجتمع شعوريًا، اقتداءً بالرعيل الأول من صحابة النبي صلي الله عليه وسلم، حيث:
'كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيًا عن بيئته الجاهلية، واتصل نهائيًا ببيئته الإسلامية.. ' 'المعالم: ص ص 35 36'.
فكيف نتوقع السلام والوئام والانسجام بين من يعتقد هذه الأفكار والمجتمع الذي يعيش فيه؟ ما عواقب هذه الأزدواجية في التعامل مع المجتمع مع اعتزاله شعوريًا ومقاطعته والاستعلاء عليه؟ ألا تؤدي مثل تلك الأفكار إلي بذر بذور الشقاق في المجتمع؟
وحكم 'سيد قطب' علي المجتمع بالجاهلية يعود إلي تلك الفكرة الغامضة في ذهن سيد قطب، وهي فكرة 'الحاكمية'، التي استحوذت علي تفكيره، فهو يري أن هذا المجتمع، حكامًا ومحكومين، لا يحكمون بما أنزل الله، ولا يطبقون شريعته، ومن ثم فهم كافرون وظالمون وفاسقون، مع أن المجتمع مسلم بحمد الله، ومعظم قوانينه وتشريعاته مستقاة من الشريعة الإسلامية. ومع ذك فسيد قطب يؤمن بأن الإسلام قد انقطع منذ زوال دولة الخلافة الإسلامية، ولا بد من استعادتها بحيث تعود الجنسية علي أرض هذه الخلافة للعقيدة لا للوطن ولا لأي شيء آخر!!
ولم يقف 'سيد قطب' عند اعتناق هذه الأفكار نظريًا، والاعتقاد في صدقها المطلق، وإنما قفز بها إلي حيز التطبيق العملي. هنا يروي القيادي الإخواني المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين 'علي عشماوي'، وهو آخر قادة التنظيم الخاص، في كتابه: 'التاريخ السرّي للإخوان المسلمين'، يروي علي عشماوي واقعة غريبة جدًا عن 'سيد قطب':
'كان المرحوم سيد قطب لا يصلي الجمعة. وقد علمت ذلك مصادفة حين ذهبت إليه دون موعد، وكانت بيننا مناقشة ومشادة حامية وأردت أن أهدئ الموقف وقلت له هيا إلي صلاة الجمعة، وقد فوجئت حين قال لي: إنه يري فقهيًا أن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة، وأنه لا جمعة إلا بخلافة' 'المعالم: ص 67'.
وهذه الواقعة في حال صحتها جدّ خطيرة.. وتفتح للظنون أبوابًا.. بل تطرح السؤال الأخطر علي الإطلاق وهو: من الذي كفر؟!
0
تعليقات